فصل: سورة ص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (149- 182):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
على ضوء ذلك القصص الذي سبق به الشوط الثاني في السورة، وما اشتمل عليه من حقيقة الصلة بين الله وعباده، ومن أخذه المكذبين بهذه الحقيقة، الذين يعبدون غير الله أو يشركون معه بعض خلقه. وعلى ضوء تلك الحقيقة ذاتها كما تضمنها الدرس الأول في السورة.. يوجه في هذا الشوط الأخير من السورة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يناقش معهم تلك الأسطورة التي يزعمون فيها أن الملائكة بنات الله. والأسطورة الأخرى التي يزعمون فيها أن بينه سبحانه وبين الجنة نسباً. وأن يواجههم بما كانوا يقولونه قبل أن تأتيهم هذه الرسالة من تمنيهم أن يرسل الله فيهم رسولاً. ومن أنهم على استعداد للهدى لو جاءهم رسول. وكيف كفروا عندما جاءهم الرسول.. وتختم السورة بتسجيل وعد الله لرسله أنهم هم الغالبون، وبتنزيه الله سبحانه عما يصفون. والتوجه بالحمد لله رب العالمين..
{فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين}..
إنه يحاصر أسطورتهم في كل مساربها؛ ويحاجهم بمنطقهم ومنطق بيئتهم التي يعيشون فيها. وهم كانوا يؤثرون البنين على البنات؛ ويعدون ولادة الأنثى محنة، ويعدون الأنثى مخلوقاً أقل رتبة من الذكر. ثم هم الذين يدعون أن الملائكة إناث. وأنهم بنات الله!
فهو هنا يستطرد معهم وفق منطقهم، ويأخذهم به ليروا مدى تهافت الأسطورة وسخفها حتى بمقاييسهم الشائعة:
{فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون}؟
أإذا كان الإناث أقل رتبة كما يدعون؛ جعلوا لربهم البنات واستأثروا هم بالبنين؟! أو اختار الله البنات وترك لهم البنين؟! إن هذا أو ذاك لا يستقيم! فاسألهم عن هذا الزعم المتهافت السقيم.
واستفتهم كذلك عن منشأ الأسطورة كلها. من أين جاءهم علم أن الملائكة إناث؟ وهل هم شهدوا خلقهم فعرفوا جنسهم؟
{أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون}.
ويستعرض نص مقولتهم المفتراة الكاذبة على الله:
{ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون}..
وهم كاذبون حتى بحكم عرفهم الشائع ومنطقهم الجاري في اصطفاء البنين على البنات. فكيف اصطفى الله البنات على البنين؟
{أصطفى البنات على البنين}!
ويعجب من حكمهم الذي ينسون فيه منطقهم الجاري:
{ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون}.
ومن أين تستمدون السند والدليل على الحكم المزعوم؟
{أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين}..
والأسطورة الأخرى. أسطورة الصلة بينه سبحانه وبين الجنة:
{وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون}..
وكانوا يزعمون أن الملائكة هم بنات الله بزعمهم ولدتهم له الجنة! وذلك هو النسب والقرابة! والجن تعلم أنها خلق من خلق الله.
وأنها محضرة يوم القيامة بإذن الله. وما هكذا تكون معاملة النسب والصهر!
وهنا ينزه ذاته سبحانه عن هذا الإفك المتهافت:
{سبحان الله عما يصفون}..
ويستثنى من الجن الذين يحضرون للعذاب مكرهين تلك الطائفة المؤمنة. وقد كان في الجن مؤمنون..
{إلا عباد الله المخلصين}..
ثم يتوجه الخطاب إلى المشركين وما يعبدون من آلهة مزعومة، وما هم عليه من عقائد منحرفة. يتوجه الخطاب إليهم، من الملائكة كما يبدو من التعبير:
{فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون}.
أي إنكم وما تعبدون لا تفتنون على الله ولا تضلون من عباده إلا من هو محسوب من أهل الجحيم، الذين قدر عليهم أن يصلوها. وما أنتم بقادرين على فتنة قلب مؤمن الفطرة محسوب من الطائعين. فللجحيم وقود من نوع معروف، طبيعته تؤهله أن يستجيب للفتنة؛ ويستمع للفاتنين.
ويرد الملائكة على الأسطورة، بأن لكل منهم مقامه الذي لا يتعداه. فهم عباد من خلق الله. لهم وظائف في طاعة الله. فهم يصفون للصلاة، ويسبحون بحمد الله. ويقف كل منهم على درجة لا يتجاوز حده. والله هو الله.
ثم يعود للحديث عن المشركين الذين يطلقون هذه الأساطير؛ فيعرض عهودهم ووعودهم، يوم كانوا يحسدون أهل الكتاب على أنهم أهل كتاب؛ ويقولون لو كان عندنا ذكر من الأولين من إبراهيم أو من جاء بعده لكنا على درجة من الإيمان يستخلصنا الله من أجلها ويصطفينا:
{وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين}..
حتى إذا جاءهم ذكر هو أعظم ما جاء إلى هذه الأرض تنكروا لما كانوا يقولون:
{فكفروا به فسوف يعلمون}..
فالتهديد الخفي في قوله: {فسوف يعلمون} هو اللائق بالكفر بعد التمني والوعود! وبمناسبة التهديد يقرر وعد الله لرسله بالنصر والغلبة:
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون}..
والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين. ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار. وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل. تسيطر على قلوب الناس وعقولهم، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم. وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض. وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل. باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها.
وحقت كلمة الله لعباده المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون.
هذه بصفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة. في جميع بقاع الأرض. في جميع العصور.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله، يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله. والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء.. ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة. ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى. فيكون ما يريده الله. ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون.. ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة. وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام. وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام.
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم.
لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد:
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون}.
وعند إعلان هذا الوعد القاطع، وهذه الكلمة السابقة، يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، ويدعهم لوعد الله وكلمته، ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة، ويدعهم ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون:
{فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون}..
فتول عنهم، وأعرض ولا تحفلهم؛ ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد الله فيك وفيهم.

.سورة ص:

.تفسير الآيات (1- 16):

{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)}
هذه السورة مكية، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقضية الحساب في الآخرة. وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى توحيد الله؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختياره رسولاً من عند الله: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا}.. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}..
لقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلاً منهم، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبدالله. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيباً على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} ساءلهم: {أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب}.. ليقول لهم: إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد، ولا حساب.. وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك، ومن تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.
وهما مع هذا كله بشر من البشر؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته، وتسد ضعفهما وعجزهما، وتقبل منهما التوبة والإنابة، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله.
وجاء مع القصتين توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلها قصة داود وقصة سليمان: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب...} إلخ.
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع. وتصور حسن العاقبة، وتداركه برحمة الله، تغمره بفيضها، وتمسح على آلامه بيدها الحانية.
وفي عرضها تأسية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة، تفيض من خزائن الله عندما يشاء.
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة رداً على استعجالهم بالعذاب، وقولهم: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}.. فيعرض بها بعد القصص مشهد من مشاهد القيامة، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب} فإن للطاغين لشر مآب {جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج} وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدُّهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار} فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عُرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!